مولد “أم شهاب” اضحك معانه وعلينا!
في ليلة النصف من شعبان، كان – وربما لا يزال – هناك مولد كبير عندنا، كنا نعد له وننتظره قبلها بأسبوع…إنه مولد الست أم شهاب…
وأم شهاب، يقال بأنها صاحبة كرامات، ولهذا أقيم لها مقام في قرية أبو الشقوق، مركز كفر صقر، التي تجاور قريتنا كفر غنام…وبناء على هذه الكرامات، تم عمل مقام كبير لها مكسو بالكامل باللون الاخضر المبهر…تم تخصيص ليلة النصف من شعبان لتكون ليلة مولد الحاجة “أم شهاب”.
في تلك الأثناء، وكنا في سن الطفولة، كانت هناك موالد كثيرة في القرى، ومنها قريتنا طبعا، وشيوخ (تجاوزا يعني) يركبون الخيول، ورجال يحملون الاعلام والبيارق الطويلة (5 متر مثلا) الملونة بألوان الطريقة، مثل الطريقة الشاذلية والطريقة النقشبندية والطريقة الرفاعية….الخ.
كان المشهد جبارا بالنسبة لنا، وكنا نطوف القرية خلف هؤلاء أتباع ومريدي الطريقة، كنا من شدة الانبهار نتابع بكل حواسنا بما فيها الفم المفتوح…وهم بالمزمار والتار والطبلة والذكر، وامامهم شيخ الطريقة راكبا حصانه الأبيض وعليه السرج الأخضر. ..خيال!
أما شكل وهيئة شيخ الطريقة فتحتاج شرح طويل…فهو في هيئة مهيبة، ولحية بيضاء طويلة، من فوق الحصان يتمتم بعبارات لانفهمها، ويخرج رغاوي من فمه أشبه برغوة طشت الغسيل…ومن حوله الحواريين تنهمر عيونهم الدموع، حتى نصدق التمثيلية المبهرة..المهم ..
احنا في كل الأحوال كنا نسير خلفهم بانبهار ويقظة شديدة، ونحن لانفهم شيء….فكنا نعتقد بأن الشيخ سيطير في السماء بحصانه…كانت اعيننا لا تفارقه حتى لا تفوتنا لحظة الإقلاع!!…هكذا خدعونا…ولكننا كنا سعداء بهذا الخيال..ما علينا.
أما المشهد الذي كان يرعبنا ويبهرنا، وكنا نظل نحكيه لبعضنا لأسابيع، فهو مشهد نفخ شيخ الطريقة من فوق حصانه، فيخرج نارا كثيفة جدا من فمه في الهواء….كانت عيوننا تكاد تنط من رؤوسنا…
طبعا بعد ما كبرنا (وتعلمنا) عرفنا أن دي حركات سيرك، فيها تدليس ونصب على الناس، وان ما يسبب هذه النار هو الجاز (الكيروسين) الذي يضعه مسيلمة في فمه…عندما يدفعه للخارج أمام شعلة ولاعة، طبعا بالترتيب مع صبيانه!!!…لكننا كنا نراها من بركات الشيخ الذي يقبل الجميع يديه وقدميه لينال البركة !!…برضو ما علينا.
نرجع لمولد الشيخة أم شهاب، والذي يصادف ليلة النصف من شعبان، هو في الأساس سبوبة كبيرة وبيزنس كبير زي سوق عكاظ كده في الجاهلية، أو المزارات الشيعية في إيران والعراق… طبعا الشيخة لاذنب لها…ولكن الموضوع سبوبة وبيزنس وهيصة، وأهي الناس بتنبسط!!
في عصر ذلك اليوم، كنت تشم راحة الجاز تسد الانوف، بل كانت تحدث أزمة في الجاز آنذاك!! فكافة الفتيات والسيدات في هذا اليوم يغسلن شعرهن ويستخدمن الجاز أو الكيروسين…المهم…هو أن الجميع يعد العدة وتبدأ الحشود في التحرك في صورة أسر كاملة (الزوج والزوجة والاولاد)…وكافة الأنظار متجهة صوب مولد أم شهاب.
ورحلة هذا المولد لها طقوس طبعا، وإلا بطلت الرحلة…وأول هذه الطقوس هو الدخول مباشرة -وقبل شراء اللعب والحلوى – إلى ضريح الشيخة أم شهاب لننال البركة…
والمشهد هنا مهيب ويخض بصراحة..حيث الضريح يشع منه النور، وفيه زحام شديد من كافة القرى، وعلى الجانب، وفي مكان مرتفع يجلس شخص ضخم البنية، هكذا كنا نراه، وربما لاننا كنا صغار، كان يرتدي زيا جميلا يشبه الجبه والقفطان، وطربوش أحمر عثمانلي جميل، وأمامه صندوق كبير (لنضع فيه الفلوس).
لايمكن دخول الضريح بالحذاء، حرام، ولهذا كنا نحمل الشباشب البلاستيك في أيدينا، لانها كانت تسرق، وفي بعض المرات عدنا للبيت حفاة…المهم…
كنا نبدأ رحلة الطواف بأكل الضريح، أي تقبيل الضريح حته حته، والا طوافنا باطل، وندور كما الساقية، إلى أن نصل إلى الصندوق والرجل الذي يرتدي الطربوش العثمانلي، الذي ينتظر هذه المناسبة من العام للعام…ونحط إللي فيه النصيب، ونخرج لنبدأ فسحة المولد.
كما ذكرت، الموضوع بالكامل -ودون ذرة شك – عبارة عن بيزنس وتجارة، وبالتالي كنا نلف في المكان ونشتري الطربوش الورقي، والساقية المصنوعة من الصفيح والتي تصدر صوتا، وكذلك المزمار المصنوع من نبات الغاب والطبلة…وبالتأكيد الزمارة…والحمص القادم من عند السيد البدوي (شي الله يا سيد) في طنطا.
في أماكن من المولد، كنا نرى حلقات ذكر، وألعاب أشبه بالسيرك ( حاجات كده بسيطة) ولكنها كانت تبهرنا…بعد شراء اللعب والحلويات (التي كانت صناعة مصرية 100%) تنتهي رحلتنا في المولد، لنعاود رحلتنا للقرية سواء بالحمير أو على الأقدام…والتقيل أوي كان يأتي بأسرته بالعربية الكارو.
كنّا نعود في تلك الليلة ونغط في نوم عميق ليس بسبب المشوار للمولد ولكن لان الجاز الذي وضعته النساء في شعرهن قضى على الناموس في الشوارع او على الأقل طرده للحقول!!!!
لقد حاولت نقل شيء من صورة، فيها كل المتناقضات لماض عشناه…عرفنا فيه المتعة مع البساطة…وعشنا فيه الجهل والخرافات…ولكن قطعا…كانت البراءة هي سمته…وكل عيد أم شهاب وانتم بخير وسعادة.